تجربة مناضل -الجزء الأول
شذرات من المسار النضالي للسيد محمد محجوبي، أحد مؤسسي منظمة 23 مارس، واحد القادة السابقين لمنظمة "إلى الأمام" في الخارج. حوار أجراه معه السيد سعيد السكتي وننشره هنا في إطار التعريف بجوانب من تاريخ حركة اليسار المغربي.
مرحبا السيد محجوبي،
بداية سيكون من باب الاستئناس أن تحدثنا عن مرحلة طفولتك.
لقد ازددت بالبادية ـ جماعة سايس اقليم الجديدة ـ في شهر ماي 1947. وككل أطفال القرية دخلت الكتاب لحفظ القرآن. وعندما وصلت سن السادسة أدرك أبي أهمية التعليم العصري، فانتقلت عائلتي إلى مدينة الجديدة وتسجلت في مدرسة التهذيب الابتدائية وهي مدرسة من المدارس الحرة التي أنشأها حزب الاستقلال لمنافسة مدارس الأعيان التي أسسها الاستعمار الفرنسي. ولقد انعكس الالتزام الوطني لطاقم المدرسة على نوعية التدريس، وتعدد الأنشطة الموازية التي كان يقوم بها المعلمون بدون حساب للجهد والوقت، ومنها تأطير الكشفية الحسنية وأنشطة أخرى رياضية وترفيهية.
وبعد الحصول على الشهادة الابتدائية تابعت دراستي في السلك الأول في ثانوية شعيب الدكالي. وقد كان التعليم مزدوجا، وباستثناء الأدب العربي والتربية الإسلامية، كانت كل المواد الأخرى تلقن بالفرنسية.
على رأس هذا السلك سنة 1963 حصلت على شهادة التعليم الثانوي (C.E.S)، وانتقلت إلى داخلية ثانوية محمد الخامس في الدار البيضاء لأن السلك الثاني ثانوي لم يكن موجودا ذلك الوقت في الجديدة، كما هو الحال وفي كل المدن المغربية الصغيرة.
قبل الحديث عن تجربتك في الدار البيضاء تميزت مرحلة 1953-1963 بأحداث هامة: المقاومة ضد الاستعمار، الاستقلال وعودة الملك محمد الخامس، الصراع بين القصر والحركة الوطنية، كيف عشت هذه المرحلة، وكيف كان تّأثيرها على الطفل ثم الشاب محمد المحجوبي؟
فعلا يمكن القول بأن هذا المناخ الوطني العام كان عنصرا في تشكل وعيي السياسي، لقد عشت أجواء المظاهرات من أجل الاستقلال وأنا طفل. وإن دخولي لمدرسة التهذيب قد ساهم بقوة في تنمية الروح الوطنية لدي. وقد كنت من جهة أخرى معجبا ومعتزا بخالي لكونه كان عضوا في المقاومة، ومن مؤسسي الاتحاد المغربي للشغل. وعندما أعود بالذاكرة إلى تلك السنوات، لابد أن أشير إلى سنة 1962، وهي سنة الاستفتاء على أول دستور، وحملة المقاطعة القوية التي خاضها الاتحاد الوطني للقوات الشعبية والاتحاد المغربي للشغل والتي عبأت أوسع الجماهير ضد "الدستور الممنوح". ويمكن أن أؤرخ أول عمل ذي دلالة سياسية قمت به في ذلك الوقت وسني 14 سنة، هو المشاركة العفوية في حملة مقاطعة الاستفتاء على دستور 1962 وتعبئتي مع العديد ممن هم في سني لتمزيق ملصقات "نعم للدستور"، إضافة إلى حضوري المهرجانات وترديد شعارات المقاطعة والمطالبة بمجلس تأسيسي، وباقي الشعارات التي كانت ترفع في التجمعات الجماهيرية.
إن قراءة الكتب، والإنصات إلى الإذاعات خاصة صوت العرب، كان لها دورها التأثيري على انحيازي إلى جانب المظلومين، والمستضعفين والقوى التقدمية. كما أن المناخ السياسي العام في تلك المرحلة، طبع جيلا بكامله من الشباب الذين شاركوا وهم أطفالا فرحة الاستقلال وآماله، كما شاركوا عموم الشعب خيبة أمله في استقلال لم تستفد منه إلا الأقلية الحاكمة وقدماء عملاء الاستعمار.
كيف تطور وعيك السياسي العفوي الذي تحدثت عنه، الى وعي سياسي واضح الأهداف، بحيث خلصت مع مناضلين آخرين إلى القناعة بضرورة بناء تنظيم ثوري؟
لقد كان الانتقال الى ثانوية محمد الخامس بالدار البيضاء حاسما في مساري السياسي. أولا لقد التقيت في داخلية الثانوية بشباب قادم من مختلف المدن الصغيرة، والقرى المهمشة، ومن خلالهم كونت نظرة أولية على واقع بلادنا بصفة ملموسة عبر معاشرة ابناء تلك المناطق. ثانيا في الدار البيضاء كانت الأندية السينمائية والأنشطة الثقافية فرصة لحضور الندوات الفكرية والمحاضرات إضافة إلى وفرة المكتبات والكتب في كل المجالات. ثالثا، إن ثانوية محمد الخامس وهي أكبر ثانوية في المغرب (ما يزيد على 3600 تلميذ من السلك الأول الى البكالوريا بمختلف التخصصات) كانت تحمل تاريخا نضاليا عريقا للوداديات التابعة للاتحاد الوطني لطلبة المغرب، وتتميز بطاقم إداري وتربوي في غالبيته تقدمي كان على رأسه ذلك الوقت مديرا تقدميا المرحوم الأستاذ المازني.
وفي هذا الوسط المتميز دراسيا وثقافيا كان المجال مفتوحا لمشاركة التلاميذ في الحياة الثانوية، وفي أنشطتها المتعددة، وأيضا للقيام عند الضرورة بحركات مطلبية منظمة اتجاه الإدارة. ولقد كنت أحد ممثلي التلاميذ الداخليين (وكنا 430 تلميذا داخلي) كما أنني لمدة سنتين كنت رئيس تعاضدية الثانوية، والتي كانت تضم العديد من الأندية المسرحية، الفنية، والرياضية وتنظم الرحلات، وتدير مقصفا لبيع المشروبات داخل الثانوية لتمويل أنشطة التعاونية.
لكن الحدث الحاسم في مساري النضالي كان هو العلاقة القوية التي جمعتني مع ثلة من الأصدقاء في ثانوية محمد الخامس حول اهتمامات سياسية مشتركة، تمخضت في سنة 1964 عن فكرة كنا نظنها بسيطة ذلك الوقت، وهي إصدار منشورات حائطية بتوقيع "الشبيبة التقدمية المغربية"، ومن هذه المجموعة، وكنا خمسة شبان متحمسين أخص بالذكر المرحوم محمد تيريدا والصديق حرزني أحمد وكان هو أيضا داخليا قادما من مدينة المحمدية، وصديقين آخرين لم ينخرطوا معنا فيما بعد في عملية التنظيم الثوري. لقد كنا في هذه المجموعة، نقوم في مناسبة او أخرى بصياغة تعليق على حدث وطني عربي أو دولي، يتكلف الرفيق محمد تيريدا برقنه على ورق خفيف في عدد محدود من النسخ، ويتم إلصاقه ليلا على جدران الثانوية. في الحقيقة لم تكن لدينا خلفية معينة لهذا النشاط السري، اللهم لربما تأثرنا بما كان يدور بيننا من نقاشات حول جماعة "إخوان الصفا" والجماعات السرية بصفة عامة، وكان يعجبنا أن نرى التلاميذ مجمعين لقراءة المنشور الحائطي دون أن يعرفوا من هي هذه "الشبيبة التقدمية المغربية".
وطبعا كنا مسيسين بما فيه الكفاية من خلال قراءاتنا حول الثورة الكوبية واطلاعنا على أدبيات تحررية أخرى، ومشاركتنا في تجمعات الشبيبة الاتحادية في المقاطعة 11 والمقاطعة 1، ومنا من كان يحضر حلقات النقاش التي كان ينظمها عبد الله العياشي من حزب التحرر والاشتراكية، وذلك دون أن ننتمي لأي هذين الحزبين.
من "الشبيبة التقدمية المغربية" كمجموعة لنشر مواقف سياسية، إلى قرار بناء تنظيم ثوري، خطوة كبيرة جدا، كيف أقدمتم عليها وأنتم شباب لا تتجاوز أعماركم 18 سنة؟
لقد صدمنا بقوة بدرجة العنف و القمع الدموي الذي تعرضت له انتفاضة مارس 1965، كما أننا استأنا جدا من ردود فعل أحزاب الحركة الوطنية التي لم تكن في مستوى الأحداث ودخول بعضها الى مفاوضات مع النظام بدون نتيجة لصالح الطبقات الشعبية.
وفي لقاء وجيز، عقدناه بعد هذه الأحداث في حديقة عمومية، قرب ثانوية محمد الخامس، "جردة مردوخ"، ثم تقيم هذا الوضع وخرجنا نحن الثلاثة - محمد تيريدا ـ احمد حرزني - -محمد محجوبي بقناعة مشتركة تتلخص في نقط بسيطة ظاهريا:
إن الحكم لا يتردد في تقتيل الشعب لتثبيت سلطته والتنكر للطموحات الجماهرية
لا يمكن إحداث أي تغيير بدون مواجهة عنف النظام بعنف جماهيري مضاد
لا يمكن للشعب ان ينتصر في هذه المواجهة بدون تنظيم ثوري
إن الأحزاب الوطنية التقليدية قد هرمت ولا يمكن أن يعول عليها
ان مسؤولية المواجهة مع النظام بدءا ببناء التنظيم الثوري تقع على عاتق الشباب المغربي
عمليا كيف بدأ تفعيل هذه الخلاصات؟
بحكم مشاركتنا في أحداث مارس 1965، فقد كنا على ارتباط مع العديد من الشباب الذين أطروا المسيرة التلاميذية، وكانوا نشيطين أثناء الانتفاضة وكنا منهم ومعهم. وبالتالي لقد كان من السهولة الاتصال بعدد منهم، والنقاش مع كل واحد على حدة لنتوصل مع عدد لابأس به إلى نفس الخلاصات السابقة الذكر. وأعطي هنا مثالا واحدا؛ كيف أنظم المرحوم جبيهة رحال لفكرة التنظيم الثوري.
لقد اجتمعت مع هذا الرفيق في مقهى موريتانيا –حي الأحباس بالدار البيضاء وانطلاقا من سؤال ما العمل أمام السياسة العدوانية للنظام والتي عشناها مباشرة خلال الانتفاضة، توصلنا معا لنفس الأجوبة. وعلى هذا المنوال تم التحاق لغريسي محمد، المصطفوى محمد، رشيد فكاك، مريد عبدالعزيز، مداد محمد، ومناضلين آخرين استقطبهم كل من تيريدا محمد و حرزني احمد. وكل واحد من الملتحقين الجدد بفكرة التنظيم عمل بدوره على استقطاب مناضلين آخرين. وللإشارة، إن الاستقطابات الأولى لم نقم بها على أساس الالتحاق بتنظيم قائم الذات، بل على أساس الإقناع بالفكرة، والبدء بالعمل وكأنها المبادرة الأولى لبناء التنظيم المنشود. وهكذا تسلسل البناء التنظيمي من النواة الأولى، الى أنوية جديدة تتكون من ثلاثة الى أربعة افراد. ولقد ساعدنا كثيرا في هذا البناء التنظيمي السري، اطلاعنا على كتب حول المقاومة الفرنسية ضد النازية وكتيب صغير بالفرنسية عثرنا عليه صدفة عند بائعي الكتب القديمة في جوطية درب غلف اسمه
«ce que tout révolutionnaire doit savoir la de la répression»
لكاتبه Victor serge
بخصوص الجانب النظري، هل كنتم في الفترة الأولى من التّأسيس تتبنون الماركسية، اللينينية؟
لقد كانت لدينا نظرة سلبية عن الاتحاد السوفياتي نظرا لمواقفه من القضية الفلسطينية، وفي المقابل كنا معجبين بالثورة الكوبية، وكان لنا تقدير كبير للثورة الصينية، و مقاومة الشعب الفيتنامي. ولم نتبنى الفكر الماركسي اللينيني إلا تدريجيا، و لقد كان عرابنا في هذا الميدان هو المرحوم محمد تيريدا الذي بدأ منذ 1964 يزودنا بكتابات ماوتسي تونغ، والتي من خلالها تعرفنا على أطروحات ماركس و لينين (الماركسية – اللينينية فكر ماوتسي تونغ).
بالإضافة للاستقطابات التي تحدثت عنها، هل كنتم تقومون بأنشطة دعائية تحريضية أم اكتفيتم في هذه المرحلة بالعمل التنظيمي؟
لقد كان للأنوية التي تأسست بالشكل الذي تكلمت عنه أنشطة جماهيرية داخل جمعيات ثقافية كالجمعية المغربية لتربية الشبيبة (AMEJ)، أو النادي السينمائي الملحق بكنيسة 2 مارس، أو المعهد الثقافي الفرنسي، ولقد اشتغلنا كذلك داخل الشبيبة العمالية المغربية (LA JOM) التابعة لنقابة الاتحاد المغربي للشغل. وفي حرب 05 يونيو 1967 قمنا بتنظيم مظاهرة قادها الرفيق محمد لغريسي من درب البلدية الى ساحة "شيمي كولور" في الدار البيضاء تنديدا بالعدوان الصهيوني.
وعلى مستوى الثانويات، لقد حرصنا على إحياء ذكرى انتفاضة 23 مارس 1965 كل سنة، وذلك بتوزيع منشورات، وتنظيم إضراب عام ذلك اليوم في أهم ثانويات الدار البيضاء. وابتداء من سنة 1968 أطلقنا وسط التلاميذ شعار المطالبة بالحق في التنظيم النقابي عبر المناشر والكتابة على الجدران، وفي سنة 1969 بدأ اصدار نشرة "المناضل" الموجهة للشبيبة المدرسية. ومن أفراد اللجنة الأولى التي كانت تقوم بطبعها على آلة تقليدية "Ronéo vietnamiene" أذكر الرفاق صلاح الوديع، محمد تيريدا ومحمد محجوبي ومناضل آخر.
من بين ما يميز فكر ماوتسي تونغ عن الفكر التحريفي هو إمكانية انتقال بلدان العالم الثالث الى الاشتراكية عبر ثورة وطنية – ديموقراطية، ودون المرور بالضرورة من ثورة بورجوازية وتنمية رأسمالية.
منشورات بدون توقيع لإخفاء وجود التنظيم، ولعل من الأخطاء التي ارتكبت فيما بعد هو العمل على التعريف بوجود تنظيم وذلك حتى في الوقت الذي تفككت فيها التنظيمات، وكان من الأحسن بالعكس إيهام البوليس بأن التنظيمات قد انتهت